فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}
{فَأَعْقَبَهُمْ} أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم ذلك {نِفَاقًا} أي سوء عقيدة وكفرًا مضمرًا {فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي الله تعالى، والمراد بذلك اليوم وقت الموت؛ فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب في {يَلْقَوْنَهُ}، والكلام على حذف مضاف، والمراد بالمفاق بعض معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضماء الكفر، وليس بمراد كما أشرنا إلى ذلك كله، ونقل الزمخشري عن الحسن وقتادة أن الضمير اوول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين: إنه يأباه قوله تعالى: {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقًا بسبب اخلافهم إلخ كثير معنى، ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل أولًا ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف، ألا ترى لو قلت: حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفًا حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده.
وقال الإمام: ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل فيالقلب كمل في حق كثير من الفساق، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلف وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر، واختيار الزمخشري كان لنزغة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح، وجوز أن يكون الضمير المنصوب للبخل أيضًا، والمراد باليوم يوم القيامة، وهناك مضاف محذوف أي يلقون جزاءه و{مَا} مصدرية.
والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالاستمرار أي بسبب اخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور، وقيل: المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحًا من وجهين الخلف والكذب الضمني، وفيه نظر لأن تخصيص بذلك يؤدي إلى تخلية الجمع بين الصيغتين عن المزية، وقد اشتملت الآية على خصلتين من خصال المنافقين، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هررة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» ويستفاد من الصحاح آية أخرى له «إذا خاصم فجر».
واستشكل ذلك بأن هذه الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها، وأجيب بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في التخلق بها، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات الصحيحة «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا» أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقًا حقيقة.
وقيل: إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على ارتكابها ومثله لا يبعد أن يكون منافقًا حقيقة، وقيل: هي في المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام فانهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق فأخلفوا وخاصموا ففجروا، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وإليه رجع الحسن بعد أن كان علا خلافه، قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئمتنا، وقيل: كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يفعلون كذا» لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة والسلام أن يواجههم بصريح القول.
وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الأخبار تحذير المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا، وبالجلمة يجب على المؤمن اجتناب هذه الخصال فإنها في غاية القبح عند ذوي الكمال:
مساو لو قسمن على الغواني ** لما أمهرن إلا بالطلاق

وقرى {يَكْذِبُونَ} بتشديد الذال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{فأعقبهم نفاقًا}
جعل نفَاقًا عَقب ذلك أي إثْرَه ولمّا ضمن أعقب معنى أعطى نصب مفعولين والأصل أعقبهم بنفاق.
والضمير المستتر في أعْقَبهم للمذكور من أحوالهم، أو للبخل المأخوذ من بَخلوا، فإسناد الإعقاب مجاز عقلي، أو يعود إلى اسم الله تعالى في قوله: {من عاهد الله} أي جَعل فعلهم ذلك سببًا في بقاء النفاق في قلوبهم إلى مَوتهم، وذلك جزاء تمرّدهم على النفاق.
وهذا يقتضي إلى أنّ ثعلبة أو معتِّبا ماتَ على الكفر وأنّ حرصه على دفع صدقته رياء وتقية وكيف وقد عُدّ كلاهما في الصحابة وأوّلهما فيمن شَهد بدرًا، وقيل: هما آخران غيرهما وافقا في الاسم.
فيحتمل أن يكون أطلق النفاق على ارتكاب المعاصي في حالة الإسلام وهو إطلاق موجود في عصر النبوءة كقول حنظلة بن الربيع للنبيء صلى الله عليه وسلم يا رسول الله نافَق حنظلة.
وذكر ارتكابه في خاصّته ما ظنّه معصية ولم يغيّر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بَيَّن له أنّ ما توهّمه ليس كما توهّمه، فيكون المعنى أنّهم أسلموا وبقُوا يرتكبون المعاصي خلاف حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد يومئ إلى هذا تنكير {نفاقًا} المفيد أنّه نفاق جديد وإلاّ فقد ذُكروا منافقين فكيف يكون النفاق حاصلًا لهم عقب فعلهم هذا.
واللقاء مصادفة الشيءِ شيئًا في مكان واحد.
فمعنى إلى يوم يلقونه إلى يوم الحشر لأنّه يومُ لقاء الله للحساب، أو إلى يوم الموت لأنّ الموت لقاء الله كما في الحديث: «من أحبّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءه»، وفسّره بأنّه محبّة تعرض للمؤمن عند الاحتضار.
وقال بعض المتقدّمين من المتكلّمين: إنّ اللقاء يقتضي الرؤية، فاستدلّ على ثبوت رؤية الله تعالى بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} من سورة الأحزاب (44) فنقَض عليهم الجُبَّائي بقول: {إلى يوم يلقونه} في هذه الآية فإنّ الاتّفاق على أنّ المنافقين لا يَرون الله.
وقد تصدّى الفخر لإبطال النقض بما يصيّر الاستدلال ضعيفًا، والحقّ أنّ اللقاء لا يستلزم الرؤية.
وقد ذكر في نفح الطيب في ترجمة أبي بكر بن العربي قصةً في الاستدلال بآية الأحزاب على بعض معتزلة الحنابلة ونقض الحنبلي المعتزلي عليه بهذه الآية.
والباء للسببية أو للتعليل، أي بسبب إخلافهم وعد ربّهم وكذبهم.
وعبّر عن كذبهم بصيغة {كانوا يكذبون} لدلالة كان على أنّ الكذب كائن فيهم ومتمكّن منهم ودلالة المضارع على تكرّره وتجدّده.
وفي هذا دلالة على وجوب الحذر من إحداث الأفعال الذميمة فإنّها تفسد الأخلاق الصالحة ويزداد الفساد تمكّنًا من النفس بطبيعة التولّد الذي هو ناموس الوجود. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}
قوله سبحانه: {فَأَعْقَبَهُمْ} أي: جعل العاقبة لهذا التصرف؛ أن جعل في قلوبهم النفاق {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} أي: إلى يوم القيامة. وما دام الله قد قال هذا فمعناه أن الذي عمل مثل هذا العمل، وسئل الصدقة فمنعها وبخل وتولى وأعرض، فهذا إعلام من الله أن هذا الإنسان لا يموت على إيمان أبدًا. ولم يمت واحد من هؤلاء على الإيمان، وقد كان هذا العقاب بسبب أنهم أخلفوا الله ما وعدوه فقال سبحانه: {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} وكذلك جاءهم العقاب بسبب أنهم: {كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فكأن الواحد منهم قد كذب كلمة العهد أولًا، وكذب ثانيًا في أنه قال: أهي أخت الجزية؟ مع أنه يعرف أن الزكاة عن المال هي ركن من أركان الإسلام. اهـ.

.قال ابن العربي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: [الاختلاف في شأن نزول الآية]:

هَذِهِ الْآيَةُ اُخْتُلِفَ فِي شَأْنِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لِثَعْلَبَةَ، فَوَعَدَ إنْ وَصَلَ إلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَيْهِ الدِّيَةُ لَمْ يَفْعَلْ.
الثَّانِي: أَنَّ ثَعْلَبَةَ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ فَنَذَرَ إنْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ، فَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَفْعَلْ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيَّ الْمَذْكُورَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا أَتَصَدَّقُ مِنْهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ، قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ.
ثُمَّ عَاوَدَ ثَانِيَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْت أَنْ تَصِيرَ مَعِي الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَصَارَتْ.
فَقَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْت اللَّهَ فَرَزَقَنِي لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ، فَتَنَحَّى عَنْهَا، وَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا، حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إلَّا الْجُمُعَةَ، وَهِيَ تَنْمُو حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، وَطَفِقَ يَلْقَى الرُّكْبَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ الْأَخْبَارِ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَأُخْبِرَ بِكَثْرَةِ غَنَمِهِ وَبِمَا صَارَ إلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَنَزَلَتْ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.
وَنَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ: رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَمُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، يَأْخُذَانِ مِنْهُمَا صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا؟ انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا وَعُودَا.
وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ، فَعَمَدَ إلَى خِيَارِ إبِلِهِ، فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمَا بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: مَا يَجِبُ عَلَيْك هَذَا، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ مِنْك هَذَا.
قَالَ: بَلْ فَخُذُوهُ.
فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ صَدَقَاتِهِمَا رَجَعَا حَتَّى مَرَّا بِثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُونِي كِتَابَكُمَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لَهُمَا كِتَابًا فِي حُدُودِ الصَّدَقَةِ، وَمَا يَأْخُذَانِ مِنْ النَّاسِ فَأَعْطَيَاهُ الْكِتَابَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَانْطَلِقَا عَنِّي حَتَّى أَرَى رَأْيِي.
فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ، فَأَخْبَرَاهُ بِاَلَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ، وَاَلَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ؛ وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُ، فَقَالَ: وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ، قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك كَذَا وَكَذَا فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ مِنْهُ، فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْك صَدَقَتَك فَقَامَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَمَرْتُك فَلَمْ تُطِعْنِي فَرَجَعَ ثَعْلَبَةُ إلَى مَنْزِلِهِ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى إلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى إلَى عُثْمَانَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ}:

قِيلَ: إنَّهُ عَاهَدَ بِقَلْبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ ضَعِيفٌ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِقَلْبِهِ الْعَهْدَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِهِمَا جَمِيعًا، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوءُ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْأَيَّامَ بِعَوَاقِبِهَا.
وَلَفْظُ الْيَمِينِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ يَمِينٌ إلَّا مُجَرَّدُ الِارْتِبَاطِ وَالِالْتِزَامِ، أَمَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّامَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ: اللَّامُ الْوَاحِدَةُ الْأُولَى لَامُ الْقَسَمِ بِلَا كَلَامٍ، وَالثَّانِيَةُ لَامُ الْجَوَابِ، وَكِلَاهُمَا لِلتَّأْكِيدِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهُمَا لَامَا الْقَسَمِ، وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ، وَكَيْفَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِيَمِينٍ أَوْ بِالْتِزَامٍ مُجَرَّدٍ عَنْ الْيَمِينِ، أَوْ بِنِيَّةٍ، فَإِنَّهُ عَهْدٌ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الْعَهْدَ وَالطَّلَاقَ وَكُلَّ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَرْءُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي عَقْدِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمُهُ بِقَصْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ أَحَدًا حُكْمٌ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ سُئِلَ: إذَا نَوَى رَجُلٌ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ، يَلْزَمُهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ، وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ.
وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ، وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ لَا يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فِي الْتِزَامِهِ، فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ بِنِيَّةٍ أَصْلُهُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ أَحْسَنَ بَيَانٍ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى هَذَا الْغَرَضِ قَبْلَ هَذَا بِمِرْمَاةٍ مِنْ النَّظَرِ تُصِيبُهُ، وَهَذَا يُعَضِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ.